السبت، 5 فبراير 2011

اللغة

.



إن اللغة – من حيث هي – ظاهرة اجتماعية تنشط وتقوى وفق نشاط مجتمعها، وما له من قوة لخوض غمار واقع الحياة وفتح آفاق المستقبل. وهي قد تفتر وتضعف إذا ما فترت حركة هذا المجتمع، وبدا عاجزاً عن حل ما يعترضه من مشكلات، ورفع ما يواجهه من تحديات.


ومن ثم، فإنها تكتسب كينونتها وتكتسي حيويتها، بقدر ما يكون للناطقين بها والكاتبين من إمكانات، لبث الحياة فيها، وإبقاء هذه الحياة متواصلة فيها ودائمة، لا يعترضها عائق في التعبير عن أي جديد تعيشه، مهما يكن هذا الجديد ؛ مما يجعل اللغة في حقيقتها، صدى يعكس واقع الذين يتوسلون بها في شؤونهم العامة والخاصة.


ثم إن اللغة كائن حي يحتاج إلى النمو الدائم والتطور المستمر، في مواكبة تلقائية لمستجدات العصر، وما تستوجب من استعمالات تتطلب بدورها ألفاظاً ودلالات تغني معجمها بالتوليد والاقتباس، كيفما تكن طبيعة هذا العصر ومجتمعه متسمة بالضعف والانهيار. وقد يصل هذا التطور وذاك النمو إلى حد التغيير الذي يتجاوز تلك الألفاظ والدلالات إلى المباني وما بينها من علاقات، والذي لا تخفى إيجابياته، ما لم يمس البنيات الأساسية، أو يُصبْ ملامحها بالتبديل والتشويه.


وبحكم تلقائية هذه العملية – وحتميتها كذلك – فإنها تتم حسب الحاجة، ووفق ما يفرضه التداول، وفي محاولة بالسليقة قبل أن تكون بالعلم، للملاءمة مع القوانين الضابطة والمعايير المتحكمة، وبناء على إجراء اختياري نابع من كونها وجميع متعلقاتها مرتبطة بحق أصحابها في التوسل بها دون غيرها، سواء للتواصل فيما بينهم، أو للإبداع، أو لاكتساب المعارف والعلوم.

ومن العجيب أن العالم كله يتحدث اليوم عن حقوق الإنسان، وعن أبرز هذه الحقوق ألا وهو حق الاختيار، استناداً إلى الانتماء وما يستلزم من حاجات، دون محاولة فرض أي اختيار آخر يكون غريباً عن هذا الانتماء، وغير مستجيب لتلك الحاجات. ومع ذلك يراد للعرب أن يحرموا هذا الحق الذي يمارسه غيرهم، والذي مارسوه هم طوال عدة قرون.


وباعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية وكائناً حيا – على النحو الذي بينا – فإنها ذات مفهوم جامع وشمولي، يجعل منها بنية متكاملة تكونها أصوات ورموز، منها تتركب كلمات تكتسب معاني ودلالات بحكم ارتباط بعضها ببعض، ووفق ما يحتاج إليه المتوسلون بها للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، ثم للتفاهم والتعارف. وهي حاجة تحثهم على توسيع متن هذه اللغة وتدقيقه، وتحديد القواعد الضابطة لاستعماله والمعايير الفنية لتجميله وتحسينه. كما تحثهم بذلك على الارتقاء المستمر بها، لإظهار تفوقهم، ومضاهاة غيرهم في مجال الإبداع والإنتاج على مستوى العلوم والآداب والفنون، وكذا على الصعيد العام كأداة للتواصل، سواء فيما بينهم أو مع الآخرين.


وإذا كان هذا التعريف ينطبق على جميع اللغات، دالاً على وظيفتها المادية التي بها تصبح كيانا حياً ونسيجاً تُشكَّل الثقافة من خلاله، والأساس الجامع لجذور المجتمع الناطق بها، فإنه بالنسبة للسان العربي يكتسي عناصر إضافية هي لا شك ضمن مميزاته ومزاياه. وتكمن في الجانب الروحي النابع من كون القرآن الكريم نزل بهذا اللسان المبين، وجاء معجزاً به، لفظاً وأسلوبا وبيانا ونظماً ومضموناً. كما تكمن في كونها لغة التراث الحضاري والثقافي الذي رافق ويرافق الإسلام، سواء في الأقطار الناطقة بها – حتى حين يوجد بها غير مسلمين – أو في غيرها من البلدان الإسلامية مهما تكن لغات التخاطب فيها.


وغير خاف أن ارتباط اللغة العربية بهذا الجانب، أغنى مضامينها بقيمه وشرائعه، وأضفى عليها جمالية رائعة، وأتاح لها ما لم يتح لغيرها، إذ غدت – كما سبق الذكر – لحمة متينة تربط العرب بغيرهم من المسلمين الذين لا ينطقون بها، حيثما وجدوا، يتلون بها القرآن الكريم ويحفظونه ويتعبدون به، ويشعرون من خلاله بإحساس باطني يداخل وجدانهم، فيزيدهم إعجاباً بها ورغبة في تعلمها، واعتباراً لها أحد مكونات هويتهم الذاتية.

عباس الجراري
إقرأ المزيد...

أعلامنا : الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور رحمه الله

.




-=₪۩۞۩₪=-----------------------------=₪۩۞۩₪=-
أعلامنا : الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور رحمه الله
-=₪۩۞۩₪=-----------------------------=₪۩۞۩₪=-


هل سمعت من قبل هذه القولة "صدق الله وكذب بورقيبة" ؟

قالها الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور رحمه الله في موقف عظيم.. فتابع سيرة حياة هذا الذي قال كلمة حقّ أمام سلطان جائر حاول أن يغرّب التونسي المسلم عن أحد أهمّ ثوابت هويّته وهو "الدين" !

_______________________________


بسم الله الرحمن الرحيم ....

مثلما كان الأزهر في مصر منارة للعلم والعلماء، كان جامع الزيتونة في تونس، منارة للعلم ومصناعًا للرجال الأفذاذ الذين قادوا الأمة وأناروا لها الطريق، منهم العالم الشجاع "محمد الطاهر بن عاشور" الذي حمل راية الإصلاح في تونس ما يزيد على نصف القرن من الزمان، حيث كرس عمره الذي بلغ التسعين في خدمة العلم والإصلاح.

الطاهر بن عاشور.. نشأته وحياته

ولد محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور، بتونس في (1296هـ/ 1879م) في أسرة علمية عريقة تمتد أصولها إلى بلاد الأندلس. وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش التي تعرض لها مسلمو الأندلس، وقد أهدت هذه الأسرة للعالم الإسلامي علمين هما "الطاهر بن عاشور" وابنه الفاضل "ابن عاشور" الذي مات في حياة والده رحمهما الله.

أتم الطاهر القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة (1310هـ/ 1892م) وهو في الرابعة عشرة من عمره، فأظهر نبوغًا منقطع النظير.

تخرج الطاهر في الزيتونة عام (1317هـ/ 1896م)، والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق، ولم تمض إلاّ سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (1324هـ/ 1903م).

وكان الطاهر قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة (1321هـ/ 1900م)، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة -ذات المنهج التقليدي- والصادقية -ذات التعليم العصري المتطور- أثرها في حياته؛ إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما: تيار الأصالة الممثل في الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ودوّن آراءه هذه في كتابه النفيس "أليس الصبح بقريب؟" من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي.

وقد توطدت العلاقة بينه وبين رشيد رضا، وكتب "ابن عاشور" في مجلة المنار.

إصلاحات الطاهر بن عاشور

عين "الطاهر بن عاشور" نائبًا أول لدى النظارة العلمية بجامع الزيتونة سنة (1325هـ/ 1907م)؛ فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية، وأدخل بعض الإصلاحات على الناحية التعليمية، وحرر لائحة في إصلاح التعليم وعرضها على الحكومة، فنفذت بعض ما فيها، وسعى إلى إحياء بعض العلوم العربية؛ فأكثر من دروس الصرف في مراحل التعليم، وكذلك دروس أدب اللغة، ودرّس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام.

ورأى أنّ تغيير نظام الحياة في أي من أنحاء العالم يتطلب تبدل الأفكار والقيم العقلية، ويستدعي تغيير أساليب التعليم. وقد سعى الطاهر إلى إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي في المدن الكبيرة في تونس على غرار ما يفعل الأزهر في مصر، ولكنه قوبل بعراقيل كبيرة.

أمّا سبب الخلل والفساد اللذين أصابا التعليم الإسلامي، فترجع في نظره إلى فساد المعلم، وفساد التآليف، وفساد النظام العام؛ وأعطى أولوية لإصلاح العلوم والتآليف.

اختير ابن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (صفر 1328هـ/ 1910م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342هـ/ 1924م)، ثم اختير شيخًا لجامع الزيتونة في (1351هـ/ 1932م)، كما كان شيخ الإسلام المالكي؛ فكان أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذين المنصبين، ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعض الشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في الزيتونة.

أعيد تعينه شيخًا لجامع الزيتونة سنة (1364هـ/ 1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.

وحرص على أن يصطبغ التعليم الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الطالب الزيتوني الكتب التي تنمي الملكات العلمية وتمكنه من الغوص في المعاني؛ لذلك دعا إلى التقليل من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم.

ولدى استقلال تونس أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (1374هـ/ 1956م).

التحرير والتنوير

كان "الطاهر بن عاشور" عالمًا مصلحًا مجددًا، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه أن يقف على جانب واحد فقط، إلاّ أنّ القضية الجامعة في حياته وعلمه ومؤلفاته هي التجديد والإصلاح من خلال الإسلام وليس بعيدًا عنه، ومن ثَم جاءت آراؤه وكتاباته ثورة على التقليد والجمود، وثورة على التسيب والضياع الفكري والحضاري.

وكان لتفاعل "الطاهر بن عاشور" الإيجابي مع القرآن الكريم أثره البالغ في عقل الشيخ الذي اتسعت آفاقه، فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم وألمّ بأهدافه وأغراضه؛ مما كان سببًا في فهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية التي وضع فيها أهم كتبه بعد التحرير والتنوير وهو كتاب (مقاصد الشريعة).

مقاصد الشريعة

كان "الطاهر بن عاشور" فقيهًا مجددًا، يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أنّ باب الاجتهاد قد أغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري، ولا سبيل لفتحه مرة ثانية، وكان يرى أنّ ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة سيصيبهم بالتكاسل، وسيعطل إعمال العقل لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.

وإذا كان علم أصول الفقه هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه، فإنّ الاختلال في هذا العلم هو السبب في تخلي العلماء عن الاجتهاد. ورأى أنّ هذا الاختلال يرجع إلى توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأنّ قواعد الأصول دونت بعد أن دون الفقه؛ لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه، كذلك الغفلة عن مقاصد الشريعة؛ إذ لم يدون منها إلاّ القليل، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول؛ لأنّ بها يرتفع خلاف كبير.

ويعتبر كتاب (مقاصد الشريعة) من أفضل ما كتب في هذا الفن وضوحًا في الفكر، ودقة في التعبير، وسلامة في المنهج، واستقصاء للموضوع.

محنة التجنيس

لم يكن "الطاهر بن عاشور" بعيدًا عن سهام الاستعمار والحاقدين عليه والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت 3 عقود عرفت بمحنة التجنيس، وملخصها أنّ الاستعمار الفرنسي أصدر قانونًا في (شوال 1328هـ/ 1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون ومنعوا المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ ممّا أربك الفرنسيين فلجأت السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبة من خلال صيغة سؤال عامة لا تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلس الشرعي.

وكان الطاهر يتولى في ذلك الوقت سنة (1352هـ/ 1933م) رئاسة المجلس الشرعي لعلماء المالكية، فأفتى المجلس صراحة بأنّه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي اعتنقها، لكن الاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا العالم الجليل، وتكررت هذه الحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر محتسب.

صدق الله وكذب بورقيبة

ومن المواقف المشهورة للطاهر بن عاشور رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وكان ذلك عام (1381هـ/ 1961م) عندما دعا "الحبيب بورقيبة" الرئيسُ التونسي السابق العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بما يريده الله تعالى، بعد أن قرأ آية الصيام، وقال بعدها: "صدق الله وكذب بورقيبة". فخمد هذا التطاول المقيت، وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور.

وفاة الطاهر بن عاشور

وقد توفي الطاهر بن عاشور في (13 رجب 1393هـ/ 12 أغسطس 1973م)، بعد حياة حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي.

المصدر: موقع طريق الإسلام
إقرأ المزيد...