.
إن اللغة – من حيث هي – ظاهرة اجتماعية تنشط وتقوى وفق نشاط مجتمعها، وما له من قوة لخوض غمار واقع الحياة وفتح آفاق المستقبل. وهي قد تفتر وتضعف إذا ما فترت حركة هذا المجتمع، وبدا عاجزاً عن حل ما يعترضه من مشكلات، ورفع ما يواجهه من تحديات.
ومن ثم، فإنها تكتسب كينونتها وتكتسي حيويتها، بقدر ما يكون للناطقين بها والكاتبين من إمكانات، لبث الحياة فيها، وإبقاء هذه الحياة متواصلة فيها ودائمة، لا يعترضها عائق في التعبير عن أي جديد تعيشه، مهما يكن هذا الجديد ؛ مما يجعل اللغة في حقيقتها، صدى يعكس واقع الذين يتوسلون بها في شؤونهم العامة والخاصة.
ثم إن اللغة كائن حي يحتاج إلى النمو الدائم والتطور المستمر، في مواكبة تلقائية لمستجدات العصر، وما تستوجب من استعمالات تتطلب بدورها ألفاظاً ودلالات تغني معجمها بالتوليد والاقتباس، كيفما تكن طبيعة هذا العصر ومجتمعه متسمة بالضعف والانهيار. وقد يصل هذا التطور وذاك النمو إلى حد التغيير الذي يتجاوز تلك الألفاظ والدلالات إلى المباني وما بينها من علاقات، والذي لا تخفى إيجابياته، ما لم يمس البنيات الأساسية، أو يُصبْ ملامحها بالتبديل والتشويه.
وبحكم تلقائية هذه العملية – وحتميتها كذلك – فإنها تتم حسب الحاجة، ووفق ما يفرضه التداول، وفي محاولة بالسليقة قبل أن تكون بالعلم، للملاءمة مع القوانين الضابطة والمعايير المتحكمة، وبناء على إجراء اختياري نابع من كونها وجميع متعلقاتها مرتبطة بحق أصحابها في التوسل بها دون غيرها، سواء للتواصل فيما بينهم، أو للإبداع، أو لاكتساب المعارف والعلوم.
ومن العجيب أن العالم كله يتحدث اليوم عن حقوق الإنسان، وعن أبرز هذه الحقوق ألا وهو حق الاختيار، استناداً إلى الانتماء وما يستلزم من حاجات، دون محاولة فرض أي اختيار آخر يكون غريباً عن هذا الانتماء، وغير مستجيب لتلك الحاجات. ومع ذلك يراد للعرب أن يحرموا هذا الحق الذي يمارسه غيرهم، والذي مارسوه هم طوال عدة قرون.
وباعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية وكائناً حيا – على النحو الذي بينا – فإنها ذات مفهوم جامع وشمولي، يجعل منها بنية متكاملة تكونها أصوات ورموز، منها تتركب كلمات تكتسب معاني ودلالات بحكم ارتباط بعضها ببعض، ووفق ما يحتاج إليه المتوسلون بها للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، ثم للتفاهم والتعارف. وهي حاجة تحثهم على توسيع متن هذه اللغة وتدقيقه، وتحديد القواعد الضابطة لاستعماله والمعايير الفنية لتجميله وتحسينه. كما تحثهم بذلك على الارتقاء المستمر بها، لإظهار تفوقهم، ومضاهاة غيرهم في مجال الإبداع والإنتاج على مستوى العلوم والآداب والفنون، وكذا على الصعيد العام كأداة للتواصل، سواء فيما بينهم أو مع الآخرين.
وإذا كان هذا التعريف ينطبق على جميع اللغات، دالاً على وظيفتها المادية التي بها تصبح كيانا حياً ونسيجاً تُشكَّل الثقافة من خلاله، والأساس الجامع لجذور المجتمع الناطق بها، فإنه بالنسبة للسان العربي يكتسي عناصر إضافية هي لا شك ضمن مميزاته ومزاياه. وتكمن في الجانب الروحي النابع من كون القرآن الكريم نزل بهذا اللسان المبين، وجاء معجزاً به، لفظاً وأسلوبا وبيانا ونظماً ومضموناً. كما تكمن في كونها لغة التراث الحضاري والثقافي الذي رافق ويرافق الإسلام، سواء في الأقطار الناطقة بها – حتى حين يوجد بها غير مسلمين – أو في غيرها من البلدان الإسلامية مهما تكن لغات التخاطب فيها.
وغير خاف أن ارتباط اللغة العربية بهذا الجانب، أغنى مضامينها بقيمه وشرائعه، وأضفى عليها جمالية رائعة، وأتاح لها ما لم يتح لغيرها، إذ غدت – كما سبق الذكر – لحمة متينة تربط العرب بغيرهم من المسلمين الذين لا ينطقون بها، حيثما وجدوا، يتلون بها القرآن الكريم ويحفظونه ويتعبدون به، ويشعرون من خلاله بإحساس باطني يداخل وجدانهم، فيزيدهم إعجاباً بها ورغبة في تعلمها، واعتباراً لها أحد مكونات هويتهم الذاتية.
إقرأ المزيد...
إن اللغة – من حيث هي – ظاهرة اجتماعية تنشط وتقوى وفق نشاط مجتمعها، وما له من قوة لخوض غمار واقع الحياة وفتح آفاق المستقبل. وهي قد تفتر وتضعف إذا ما فترت حركة هذا المجتمع، وبدا عاجزاً عن حل ما يعترضه من مشكلات، ورفع ما يواجهه من تحديات.
ومن ثم، فإنها تكتسب كينونتها وتكتسي حيويتها، بقدر ما يكون للناطقين بها والكاتبين من إمكانات، لبث الحياة فيها، وإبقاء هذه الحياة متواصلة فيها ودائمة، لا يعترضها عائق في التعبير عن أي جديد تعيشه، مهما يكن هذا الجديد ؛ مما يجعل اللغة في حقيقتها، صدى يعكس واقع الذين يتوسلون بها في شؤونهم العامة والخاصة.
ثم إن اللغة كائن حي يحتاج إلى النمو الدائم والتطور المستمر، في مواكبة تلقائية لمستجدات العصر، وما تستوجب من استعمالات تتطلب بدورها ألفاظاً ودلالات تغني معجمها بالتوليد والاقتباس، كيفما تكن طبيعة هذا العصر ومجتمعه متسمة بالضعف والانهيار. وقد يصل هذا التطور وذاك النمو إلى حد التغيير الذي يتجاوز تلك الألفاظ والدلالات إلى المباني وما بينها من علاقات، والذي لا تخفى إيجابياته، ما لم يمس البنيات الأساسية، أو يُصبْ ملامحها بالتبديل والتشويه.
وبحكم تلقائية هذه العملية – وحتميتها كذلك – فإنها تتم حسب الحاجة، ووفق ما يفرضه التداول، وفي محاولة بالسليقة قبل أن تكون بالعلم، للملاءمة مع القوانين الضابطة والمعايير المتحكمة، وبناء على إجراء اختياري نابع من كونها وجميع متعلقاتها مرتبطة بحق أصحابها في التوسل بها دون غيرها، سواء للتواصل فيما بينهم، أو للإبداع، أو لاكتساب المعارف والعلوم.
ومن العجيب أن العالم كله يتحدث اليوم عن حقوق الإنسان، وعن أبرز هذه الحقوق ألا وهو حق الاختيار، استناداً إلى الانتماء وما يستلزم من حاجات، دون محاولة فرض أي اختيار آخر يكون غريباً عن هذا الانتماء، وغير مستجيب لتلك الحاجات. ومع ذلك يراد للعرب أن يحرموا هذا الحق الذي يمارسه غيرهم، والذي مارسوه هم طوال عدة قرون.
وباعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية وكائناً حيا – على النحو الذي بينا – فإنها ذات مفهوم جامع وشمولي، يجعل منها بنية متكاملة تكونها أصوات ورموز، منها تتركب كلمات تكتسب معاني ودلالات بحكم ارتباط بعضها ببعض، ووفق ما يحتاج إليه المتوسلون بها للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، ثم للتفاهم والتعارف. وهي حاجة تحثهم على توسيع متن هذه اللغة وتدقيقه، وتحديد القواعد الضابطة لاستعماله والمعايير الفنية لتجميله وتحسينه. كما تحثهم بذلك على الارتقاء المستمر بها، لإظهار تفوقهم، ومضاهاة غيرهم في مجال الإبداع والإنتاج على مستوى العلوم والآداب والفنون، وكذا على الصعيد العام كأداة للتواصل، سواء فيما بينهم أو مع الآخرين.
وإذا كان هذا التعريف ينطبق على جميع اللغات، دالاً على وظيفتها المادية التي بها تصبح كيانا حياً ونسيجاً تُشكَّل الثقافة من خلاله، والأساس الجامع لجذور المجتمع الناطق بها، فإنه بالنسبة للسان العربي يكتسي عناصر إضافية هي لا شك ضمن مميزاته ومزاياه. وتكمن في الجانب الروحي النابع من كون القرآن الكريم نزل بهذا اللسان المبين، وجاء معجزاً به، لفظاً وأسلوبا وبيانا ونظماً ومضموناً. كما تكمن في كونها لغة التراث الحضاري والثقافي الذي رافق ويرافق الإسلام، سواء في الأقطار الناطقة بها – حتى حين يوجد بها غير مسلمين – أو في غيرها من البلدان الإسلامية مهما تكن لغات التخاطب فيها.
وغير خاف أن ارتباط اللغة العربية بهذا الجانب، أغنى مضامينها بقيمه وشرائعه، وأضفى عليها جمالية رائعة، وأتاح لها ما لم يتح لغيرها، إذ غدت – كما سبق الذكر – لحمة متينة تربط العرب بغيرهم من المسلمين الذين لا ينطقون بها، حيثما وجدوا، يتلون بها القرآن الكريم ويحفظونه ويتعبدون به، ويشعرون من خلاله بإحساس باطني يداخل وجدانهم، فيزيدهم إعجاباً بها ورغبة في تعلمها، واعتباراً لها أحد مكونات هويتهم الذاتية.
عباس الجراري